تستيقظ في الصباح الباكر ولا تتذكر الساعة التي نمت فيها، يغطي جسمك العرق وقد خبثت نفسك من نوم متقطع بسبب الحَر، تستيقظ تنفخ قليلا ثم تعود لتنام، وتصحو على أخبار إقفال الموانئ النفطية وإمكانية غياب الوقود، ثم تجد أن أزمة الكهرباء ستزداد مع هذا الإقفال المتكرر للموانئ النفطية، وتجد رئيس الوزراء فتحي باشاغا يشترط صرف ميزانيته إذا أراد الناس عودة الكهرباء، وهكذا يكفر الواحد بالمشهد وبكل ما فيه… تخرج بسيارتك تتذكر أنك لم تعد تملك كثيرا من الوقود وتتذكر الطابور الطويل للوصول إلى محطة الوقود، فتقرر العودة للنوم واستغلال الساعات القليلة التي عادت فيها الكهرباء، وما إن تنام حتى تنقطع الكهرباء مجدداً!! الرسالة التي تصل إليك من كل ذلك هو أنك أمام ساسة لا يبالون بحال الناس، ولا يدركون خطورة المشهد والأهم أنهم عاجزون عن حل الأزمة التي صنعوها بأنفسهم.
هذه الرسالة ربما تمثلت في ذلك المشهد المحزن لمواطن يخرج من بيته مسرعاً يبحث عن أي مولد كهربائي في أي محل لاستمرار علاج ابنه المريض بالربو بجهاز الأكسجين. هذا المشهد ومشاهد أخرى تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي وتتناقلها الصفحات المختلفة، أكدت الرسالة أن الدولة قد فشلت وأن الاستمرار في هذا المشهد لن يصل بنا إلى حل، بل إن ما قاله ممثل الولايات المتحدة الأمريكية في جلسة مجلس الأمن الأخيرة هو الأقرب للصواب، بأن الأطراف تحاول التمديد لنفسها عبر تعقيد خارطة الطريق وإفشال الحوار فيما بينها.
الأطراف السياسية من جانبها، تريد أن تقول للشعب نحن نعمل ما علينا وليس بالإمكان أفضل مما كان، وهذا أشبه بطبيب فاشل يصر على أن تدهور حالة المريض هو بسبب المرض وليس بسبب جهل هذا الطبيب؛ لذا فإن البحث عن تغيير لهذه الشرعية تحوَّل في مدارك الناس بأنه ضرورة، رغم تعقيد المشهد فإنهم لم يعد أمامهم سوى التخلص من هذه الأجسام، وهذا ما حدث في مظاهرات الشباب، أن الشعب لايزال جزءا من المعادلة وأنهم يرفضون الجميع، وهذا أشبه بما حدث في ليبيا وشعار (كلٌ يعني كلٌ).
لم يفطن الساسة في المرحلة السابقة أنهم يلغي بعضهم بعضاً، ويفسد بعضهم على بعض، وأن هذه العقلية التي لا تحسن التعاون والتعاضد هي التي جعلت المجال السياسي خطيئة يراها الناس سبباً في معاناتهم، وأن الدولة تحولت لدولة مليشيات وزعامات سياسية تبحث عن مصالحها ولا تبحث عن استقرار البلد، فإذا علمنا أن بعض المناطق والمدن لا تنقطع عليها الكهرباء لأن فيها قوة عسكرية ترفض ذلك، تعرف ساعتها أن المسألة معقدة لا تتعلق بالشرعية بل بقدرة كل التنظيمات تحت الدولة في السيطرة على مؤسساتها الخدمية، ذلك في الشرق والغرب والجنوب، وأن ذلك ينعكس على سلوك السياسيين ويجعلهم غير قادرين على الانتقال بالمشهد إلى الأمام، وهذه الرسالة التي فطنت لها المظاهرات التي حدثت البارحة؛ فإن مظاهرات مصراتة ركزت على المجلس البلدي، وفي طبرق مجلس النواب، وفي طرابلس حكومة الوحدة الوطنية، وطال الغضب من بعض الأحزاب التي أسهمت في تعزيز الانقسام، وبعض التوجهات والشخصيات العامة، الرسالة من كل ذلك أن الأمور مترابطة فكل هذه الأجسام هي المسؤولة عن تعقيد المشهد وأن الحلقة المفرغة التي وصلت إليها البلاد بسبب كل هؤلاء وليس بسبب طرف دون الآخر.
الإشكال الذي شهدته هذه المظاهرات هو اختلاف المطالب فمطالب طبرق تمثلت في تولي رئيس المجلس الرئاسي السلطة، ونادى آخرون بمجلس القضاء أن يتولى هو السلطة كما في البيضاء، وفي الغرب الليبي كانت الانتخابات هي المطلب الرئيس، بينما ابتعد آخرون في بنغازي بالمناداة بالسلطة لخليفة حفتر. هذه الخلافات وغياب الحد المتفق عليه من البحث عن حلول للمشهد قد يضعف هذه المظاهرات، ويجعل الرسالة التي كانت ظاهرة في رفض كل ما يحدث من حوارات وتطورات سياسية واعتبارها عبثا، يجعل تلك الرسالة مشوهة ويثير تساؤلات من بعض الرافضين لهذا الحراك بأن هذه المظاهرات لها أهداف سياسية تدعم طرفا على حساب طرف آخر.
المظاهرات يجب أن تكون جزءا من المشهد وتدعم التقدم للأمام لا أن تكون فورة وتنتهي، أو غضبا ينفس به الناس عن أحوالهم ثم ينقضي، لذا بدون التنسيق والبحث عن مطلب وحيد وهو عودة الشرعية للشعب، تقديم خارطة واضحة تنطلق من الدستور إلى الانتخابات وصولاً إلى دولة مدنية تحترم المواطن وتركز كل الجهد على ذلك… ما لم يكن هناك استراتيجيا واضحة كهذه، فإنها ستكون كغيرها من الاحتجاجات التي لم تستطع أن تكون جزءاً من حسابات كل من يريد أن يتصدر المشهد السياسي. الناس قالت كلمتها. ما تقومون به عبث ولاشرعية لكم… وعلى الساسة أن ينصتوا ويسمعوا ويطيعوا.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي القناة وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً