الديمقراطية.. تربة الثورة وحديقتها

بين 14 يناير و17 فبراير زمن قصير، استطاعت خلاله إرادة التغيير في ليبيا أن تستلهم من ثورة تونس، قواعد الاشتباك الموضوعية المشتركة بين البلدين، ووحدة الأهداف، دفعت تونس دكتاتورها إلى الهروب وقتل القذافي في عقر داره؛ لكن بينما شقت الجارة الغربية طريقها وإن بصعوبة نحو الحرية والاستقرار، غرقت ثورة فبراير في عدوى الانقلاب العسكري في مصر.

حفتر الذي وجدت المخابرات المصرية ضالتها فيه وأسست معه ما سمي عملية الكرامة، له في تونس أشباه لا يقلون عنه رغبة في حكم البلاد والعودة بها إلى مربع الديكتاتورية ولو كانوا من طبيعة مدنية، امتدت إليهم أيادي البترو-دولار الإماراتي أفرادا وأحزابا، اجتمعوا على هدف واحد رغم مشاربهم الفكرية المتناقضة، هو إسقاط حركة “النهضة” التي فازت بأول انتخابات ديمقراطية في 2012، وإسقاط الثورة من ورائها.

تمكن المعسكر الإماراتي المضاد للثورة من إسقاط ما سمي حكومة الترويكا التي يقودها حزب حركة النهضة، بعدما ألقى انقلاب السيسي في مصر بظلاله على المشهد التونسي، وفي 2014 تمكن حزب نداء تونس الذي قاده الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي، من الفوز بالانتخابات التشريعية وفاز زعيمه بالرئاسة أمام المنصف المرزوقي بفارق أصوات ضئيل.

كان للإمارات دور كبير في إسقاط الترويكا باغتيالين سياسيين، كما كان لأموالها دور في فوز الباجي الذي انقلب عليها عندما تحالف مع النهضة في تشكيل حكومة ائتلافية بفلسفة التوافق، لكنه لم يقطع حبل الود معها وتمكن السياسي المخضرم الذي مارس الحكم مع بورقيبة من اللعب على أكثر من حبل، دعم الثورة في ليبيا وسمح بإدخال السلاح لإسقاط القذافي عندما كان وزيرا أول قبل انتخابات 2012، وفتح قنوات تواصل مع حفتر.

أحد العناصر القيادية في حزب الباجي قايد السبسي الحاكم ويدعى محسن مرزوق أسس حزبا جديدا بعد خلافات حادة مع نجل السبسي، وزار حفتر في بنغازي في فبراير 2017، تمهيدا لزيارته إلى تونس بعد بضعة أشهر بدعوة قيل إنها من الرئيس السبسي، وظهر حفتر في مطار قرطاج محاطا بعدد من مرتزقته في استعراض استفز العديد من التونسيين.

بعد استقباله في قصر قرطاج ألقى حفتر كلمة ظهر خلالها في صورة بخلفية لمجسم نصفي للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، ربما لم يكن من قبيل الصدفة أن يوضع حفتر في هذا الموضع بالتحديد، فالباجي لم يستطع أن يخرج من جبة بورقيبة وظل يتمثل صورته وفكره أحيانا، ولو لا ذلك لسلّم “إخوانَ تونس” وخان الثورة، ولاعب المتربصين رغم خلافه المعلن مع الإسلاميين وأنصار الثورة عموما.

رغم حملات التشويه ورغم أخطائها الكثيرة، استطاعت الثورة التونسية الفوز عندما وجدت الديمقراطيةَ وعاءً للمنافسة الشفافة، وكذلك نجحت ثورة فبراير في أول اختبار للديمقراطية عام 2012، غير أنّ الانحراف بهذا المسار أغرقها في خلافات جانبية أرادها حفتر وداعموه حرب استئصال لها، تحت عناوين خادعة كمحاربة الإرهاب.

ثورة فبراير كغيرها من الثورات في العالم تنشد السلام وتؤسس لقيم التعايش المشترك وحرية التعبير، ولا يمكنها أن تترعرع إلا في حضن الديمقراطية، ورغم أن للثورة مخالب تدافع بها عن نفسها عند الضرورة، إلا أنها تنزع إلى الحوار السلمي على قاعدة قبول الرأي المختلف والاحتكام إلى قوانين التداول السلمي، وعندما يسكت صوت السلاح، ستغرد الثورة وستري من جمالها وخيرها ما ينسي آلام المرحلة الراهنة.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي القناة وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

Author
صحافي تونسي حاصل على باكالوريوس آداب ولغة عربية
Total
0
Shares
مقالات ذات صلة