ليبيا والأحزاب غير الرسمية

ربما نعتقد أن الأحزاب التي تسجلها المؤسسات الحكومية والتي تعلن عن افتتاحها هي الأحزاب الحقيقية في ليبيا، أو نظنّ أن هذه الأحزاب ستصبح قادرة على إدارة البلد في القريب العاجل بمجرد مشاركتها في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، لا يحكم بنجاح هذه الأحزاب التي تشكلت بهذه الطريقة التقليدية، لأنه زواج كلاسيكي سرعان ما ينتهي، الأحزاب غير المعلنة هي التي تنتشر بين الساسة وأصحاب رؤوس الأموال والعلاجات الخارجية هذه هي الأحزاب التي يبدو أنها وصلت للسلطة وتبحث عن صيغة لتشريع وجودها.

هذه الأحزاب تتشكل وفق ميثاق يجمع منتمين لتلك الأهداف المصلحية من الشرق والغرب والجنوب، بل إن الفترة التي امتدت لثلاث عشرة سنة كانت كفيلة بأن يتفاهم أعضاء هذه الأحزاب ويصلون للمشترك الذي يجمعهم ويسعون إليه وهو السلطة، الحزب الأول هو حزب السياسيين، هذا تشكل من الانتخابات المتتالية التي عاشتها ليبيا فكل عضو في المؤتمر الوطني أو مجلس النواب أو مجلس الدولة وما تفرع عنها من حكومات، وظهرت عليه علامات وأمارات البحث عن السلطة والقدرة على المراوغة وربما التدليس للوصول إلى المناصب، وهدف هذا الحزب واضح بجلاء وهو أن المرحلة الانتقالية لن تنتهي حتى تتحقق الاستفادة كبرى، وأي نظام جديد يجب أن يخضع لشروطنا المسبقة وأفكارنا التي سنقود بها المجتمع حتى لو فارقنا السلطة، هذا لم يكتب ولا ينبغي له أن يكتب، لكنه النمط الفكري للحزب الجديد وأعرافه التي انتشرت بينهم كالوباء، وهذا هو العقد الضمني.

كأي حزب قد يختلف أعضاؤه ويعارض بعضهم بعضًا لكن تلك الحدود لا ينبغي أن يتخطاها أحد وهي.. نحن من يكتب المستقبل كما أننا من يضع الحاضر في الإطار الذي نريد، مهمة هذا الحزب صعبة جدًّا لأنهم ليسوا وحدهم في الساحة، هناك أحزاب أُخر وكذلك قوى خارجية لا يملكون حيالها سوى الطاعة لكنها طاعة معروفة ملؤها التلكؤ والمماطلة، ومحاولة اللعب على التناقضات للوصول إلى الغايات المشتركة بينهم.

الحزب الثاني وهو الأخطر، وهو حزب المال، وهؤلاء عقلانيون لهم منظور واضح وهو الكسب والقدرة على إدارة مؤسسات الدولة بالصورة التي تضمن لهم أولًا: مزيدًا من الكسب، ثانيًا: المزيد من الوقت لإقناع المجتمع بأحقيتهم في السلطة، دخل في هذا الحزب رجال أعمال من شتى أقطار ليبيا، لهم أموال ملأت خزانات المصارف ولديهم شركات، ومؤسسات استثمارية وأخرى عقارية وشركات استشارية لا ترفض الدخول في هذا الحزب، بعض التكنوقراط يعرضون أنفسهم بشكل مستمر للدخول في هذا الحزب، لا ينبغي هنا أن نأخذ الأمر بشكل سلبي، فكل الأحزاب في العالم لم تنشأ بالطريقة الساذجة التي يعتقدها بعضهم حين يريد تشكيل حزب بأن يختطّ له رسالة وأهدافًا وخطة إستراتيجية ويقحم معه حفنة من الناس لا رأي لهم.

إن الأحزاب تتشكل من رحم العملية التاريخية نفسها، من التلاقي في منتصف الطرقات، من قاعدة: عدو عدوي صديقي، ليس بقاعات ومقرات وفروع واشتراكات، هم عامل جذب لا يقوى على بريقه شيء من الكلمات المنمقة والخطابات الوطنية الجارفة، هذا الحزب سيظل يعارض الحزب الأول ويرفض ألاعيبه التشريعية، لأن الحرب الباردة بينهم مستمرة وستستمر إلى أن ينتهز طرفٌ آخر فرصةً لاقتناصها.

بين هذا الحزب وذاك.. أحزابٌ آخذة في التشكل، مليشيات سئمت هذه التسمية وتسعى للوجود في المشهد بقوة، كرهت أن تكون حامية لحزب المال والسلطة، حزب لأصحاب المصالح الذين أقصوا من هذين حزبين وشخصيات تظن أنها قادرة بعلاقاتها الدولية على الدخول للمشهد وتغييره، هذه الأحزاب لا انتماء أيديولوجي لها، ستجد في هذه الأحزاب ما شئت من الفبرايريين وأنصار القذافي والإسلاميين والعلمانيين وبالطبع أتباع حفتر. أضعف الأحزاب هي الأحزاب الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني، ورغم أنها في وضع يؤهلها لِأَنْ تقترب من الناس لتحشدهم كبحًا لجام حزب المال والسلطة إلا أنهم مشتتون وتائهون في العملية السياسية التي هي استنزاف لقولهم وقدراتهم، لذا ستجد هذه الأحزاب لا تنظر لحزب السلطة والمال على أنهما مجرد حزبين بل مجموعة من المسؤولين عن المرحلة الانتقالية.

إن صح هذا الفهم فإن المشهد في ليبيا مرشح لمزيد من التوتر بين الحزبين الأساسيين، إلى أن ندرك المعادلة ونعرف كيف نتحرك بمجتمع رافضٍ للتسلّط راغب في إيقاف هذا النزاع الذي لا يعرف أحد إلى أين يمضي بليبيا وشعبها، هنا من الممكن للأحزاب الرسمية أن تدرك معادلة التحول وفقًا لتاريخ التحولات الدولية، وأن تخرج من النظريات الساذجة عن التحول الناعم الذي يأتي عبر النُّظم، إن الدستور الحقيقي هو الذي يكتب عبر هذه الدراما التاريخية التي نعيشها، وما لم يكن هناك تيار وطني وفكر تاريخي حقيقي يفهم معادلات التحول فإن مسلسل التسلط والعودة الطوعية للراعي والحاكم بأمره سهلة ومرحّب بها تمامًا حتى من الغرب الذي لن يمانع بذلك، بل سيجده سلوكًا عقلانيًّا أن يرضى العصفور بالقفص، ويهدأ الخيل الجامح ويكف عن الصهيل.

Total
0
مشاركة
مقالات ذات صلة