المعركة القادمة في ليبيا معركة الدستور…لماذا؟

الخبر الجيد فيما يحدث في ليبيا أن الأزمة الليبية في نهايتها، والخبر السيء هو أن اتفاق الأطراف السياسية هو الإعلان عن هذه النهاية لكنه، وهذا هو السيء في الأمر، إن حدث سيعني سيطرة نخبة سياسية على المشهد لعقود قادمة. هذه النخب هي نخب الضرورة وليس لديها أي رصيد شعبي يمكن أن يضمن قدرتها على إيجاد رؤية تنموية لليبيا، هي أقل بكثير من ذلك. في المقابل هنالك رهط امتلك المال وشبكة من العلاقات داخل مؤسسات الدولة تضمن استمرار هذا الرهط مهما كان حجم التغير السياسي إلا أن يكون هناك حرب كبيرة وهذا مستبعد في الوقت الراهن. صدر عن جامعة كامبريدج عام 2013 كتاب الأصول الأوتوقراطية للديمقراطية، وقدم الكاتبان مايكل ألبرتس، فيكتور مينالدو نظريتهما عن التحول الديمقراطي، وبعد دراسة التحولات السياسية منذ القرن التاسع عشر إلى الربيع العربي عام 2011 يبين الكتاب كيف أن الأصل في التحول الديمقراطي لا يتعلق بإرادة الشعب كما هو شائع، بل بنوع آخر من الديمقراطية سماه ديمقراطية النخب ويشرح ذلك بأنه قدرة النظم السابقة على إيجاد قاعدة قانونية تضمن للنخب العسكرية والاقتصادية السيطرة على قواعد الانتخابات، وضمان عدم المحاسبة على الجرائم التي قام بها النظام السابق، ضمان عدم مصادرة المكاسب المالية مثل أصول الشركات، التغافل عن السرقات ومن ذلك ضمان عدم المحاكمة بل دسترة كل هذه القضايا حتى يمكن ممارسة الحياة السياسية في إطار القانون.

إذا التحول السياسي يضمن ذلك الاشتباك بين مصالح الرهط الحاكم والنخب الاقتصادية وضغط الرأي العام، لذا تستخدم بنية الدولة ومؤسساتها في ضمان استمرار بعض الكفاءات من النظم السابقة لضمان القدرة على منع تواجد أي قوى وطنية في مؤسسات الدولة الهامة كالدفاع، والمالية، والمصرف المركزي، والداخلية، والاستخبارات؛ ومن جانب آخر يعمل الرهط الحاكم على كتابة الدستور الذي يحقق الأهداف التي يسعى لها الجنرالات أو الحكام السابقون، في بعض الدول تستخدم الأحزاب الحاكمة السابقة لضمان الوصول للانتخابات. في ليبيا يبدو الأمر قريبا من ذلك وإن كان هناك اختلاف ظاهر، فالمؤسسات في ليبيا والنخب الحاكمة أضعف بكثير، فلم تستطع السيطرة على مؤسسات الدولة خاصة بعد الثورة في سنواتها الأولى، وعندما فشلت هذه القوى في التأثير لجأت للعنف والتمرد على الدستور خاصة مع إصرار بعض القوى على قانون العزل السياسي. هنا بدأ الانقسام والحرب وعانى الجميع من سنين سوداء جعلت فكرة التحول الديمقراطي نوعا من الوهم، وسيطرت الفوضى على المشهد السياسي.

حرب طرابلس كانت مرحلة مهمة في مسار الأزمة الليبية، فقد تبين للجميع استحالة الحسم العسكري، وأن الكل قادر على الحصول على دعم خارجي، وأن ليس لكل هذه القوى أي قدرات ذاتية كالحديث عن قيادة قوى المجتمع أو خبرة عسكرية، فالكل متوازن القوى، محدود القدرات وينظر للخارج للتخلص من خصومه. لذا بعد هزيمة حفتر وجيشه المزعوم، أدرك الجميع أن زمن الحرب قد ولى، وإن كان التلويح بالقوة مهما للاستمرار في المشهد السياسي؛ لذا وصلت الأزمة الليبية إلى للمرحلة التي يدرك فيها الجميع ضرورة أن يكون ضمن الإطار السياسي الشرعي، وإن كان لا بد من كتابة للدستور فلا بد أن تكون وفق مقاس يحقق الأهداف الخمسة 1- قانونا انتخابيا مناسب، 2-ضمانات دستورية، 3-استمرار الاستحواذ على المكتسبات المالية السابقة، 4-ضمان عدم تغيير الدستور، 5-والفرار من العقاب. لتحقيق ذلك تحالفت النخب السياسية لكتابة الدستور الأمر الذي يبدو أنه كان بناء على الاتفاق بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة من جانب مما يمثل التحالف الحاكم، وبين خليفة حفتر وأبنائه وبعض من أتباع النظام السابق من جانب آخر، ويبدو أن الاتفاق شمل الدستور والانتخابات لكن رد الفعل في المنطقة الغربية جعل المجلس الأعلى للدولة يأخذ خطوة للوراء، خاصة مع رفض الكتائب المسلحة لخليفة حفتر وانتباههم لتلك الصفقة، هنا جاء دور النخب المالية والاقتصادية التي تمثلها حكومة الدبيبة، التي استطاعت أن تتجه للشارع وتقدم له كل ما يمكن أن يجعله يثق في قدرة هذه النخب المالية على الاستجابة لمطالب الشارع، وهذا التي حدثت في التاريخ فإن قوة هذه النخب المالية هو الشارع، وقدرة النخب السياسية على التحكم في القوانين.

هذه الدينامية بين النخب السياسية وأصحاب المال والشارع هي عملية التحول السياسي التي تعتمد في النهاية على سلوك كل طرف من هذه الأطراف دون أن نغفل دور العامل الخارجي الذي يحفز كل هذه الأطراف فيما عدا الشارع. في الوقت الحالي ليبيا أحوج ما تكون لشعبها، ليس لأن التحول الديمقراطي يحتاج للناس، أو للثورة على النظم القائمة، بل لأن هذه القوى تائهة وهي مستعدة لفعل أي شيء من أجل استمرار هذا الوضع، لذا فإن الشارع عليه أن يكون ضمن هذه المعادلة بأن يضع قواعد اللعبة، ويصل مع هذه القوى للحد الأدنى الذي يضمن تحولا سياسيا يحقق الأدنى من الاستمرارية التي يمكن أن تتحول لتغيير حقيقي، يخرج ليبيا من معضلة الفوضى التي صاحبتها منذ استقلالها.

إذا ظل الشارع غافلا عن هذا التحول العظيم، فإنه حتى وإن جاء الاستقرار فإنه استقرار يعبر عن وصول الأطراف لمصالحها وضمانها للاستمرار في المشهد على حاسب متطلبات التغيير، ولن يحدث التغيير إلا بعد أن تضعف هذه القوى أو يتولاها القدر بالوفاة والغياب. الشارع الآن هو رمانة الميزان ويجب أن يضع شروطه على كافة الأطراف ومالم نعي ذلك فإن حلم التحول الديمقراطي الذي يحقق العدالة لن يرى النور، وستتحد هذه النخب ضد هذا الشعب، ببساطة علينا أن نجد عرضا مغريا للنخب الاقتصادية حتى يمكننا أن نضمن جزء من مستقبل لا نملك منه الكثير.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي القناة وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

Author
استشاري نظم صحية وباحث للعديد من مراكز الدراسات مؤلف العديد من الكتب المنشورة سياسي وخبير في…
Total
0
مشاركة
مقالات ذات صلة