هل انتهت ثورة فبراير؟

من يجهل التاريخ يجازف بتكراره، هذه الحكمة التي توارثناها من التاريخ الروماني؛ تكشف لنا كيف أن الإنسان قد يعيد تجارب الآخرين، ويكرر أخطاءهم دون أن يدري، فمن الممكن مثلاً أن تعيش دور “روبيسبيير” في الثورة الفرنسية فتقتل الناس أو أنت تدَّعي-مع ذلك- أنك تحمي وطنك وثورتك، من الممكن كذلك أن تسعى للسلطة باسم الثورة والثوار كما فعل البلاشفة في الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، من الممكن كذلك أن تجد نفسك يداَ بيد مع الذين كنت تعتبرهم أعوان الظلمة والطغاة كما فعل اليعاقبة الثوريين مع الملكيين في الثورة الفرنسية، أو أخيراً من الممكن أن تمارس نفس ممارسات النظم الطاغية كما فعل الأئمة والشيوخ في الثورة الإيرانية، لك ذلك ممكن عندما نجهل الثورة وحقيقتها.

لست هنا لأعيد على مسامعكم معنى الثورة لكن ما يجب أن نعرفه أن الثورة بداية وليست نهاية، مسار وليست نتيجة، نبأ وليست مستقر، حدث وليست قيمة حتى يطلق عليها معايير الصلاح والفساد، لا أحد يطلب من الزلازل الإعمار، أو يبغي الصحة في المرض، أو ينشد التغيير من البراكين؛ الإنسان هو الذي يقوم بكل ذلك، هو الذي يقوم بالإعمار بعد الزلازل وهو الذي يسلك مسلك العافية حتى لا يقع في المرض، وهو الذي يعرف كيف يخمد البراكين حتى لا تحرق الأخضر واليابس.

عندما تناقش الساسة والمثقفين ستجد هنالك خلافا حول هذا السؤال، فبينما يدعي السياسي المعرفة، فإنه يقول إن الثورة مرحلة وانتهت، والمثقف الذي يدعي أنه سياسي يقول إن الثورة لا تنتهي حتى تحقق أهدافها. في كلا الرأيين صواب وخطأ.

السياسي يقصد ألا تتحول الثورة إلى طرف سياسي، وأيديولوجيا لتبرير سلوكيات تتناقض مع قيم المجتمع كاستعمال العنف ضد المدنيين أو الفساد الإداري والمالي أو أن تتحول الثورة نفسها إلى حزب سياسي سلطوي يتحكم في البلاد ومؤسساتها كما حدث في الثورة المكسيكية عام 1910 حيث حكم الحزب الثورة البلاد لعقود استمرت قرابة قرن، وما “كاسترو” في الثورة الكوبية منّا ببعيد، كما أن الأحزاب الشيوعية كانت نتاجا لثورة البلشفية، والقذافي حكم ليبيا أربعة عقود وهو يتحدث عن الثورة ويتخذها ذريعة ليتربع على عرش السلطة ويتحكم في قوت الشعب الليبي. هذا المعنى –من السياسي- لا غبار عليه، لا يجب بحال من الأحوال أن تتحول الثورة إلى حزب، وإنزالها من منزلة إرادة شعبية إلى إرادة حزبية.

في المقابل لا ينبغي أن يفهم من ذلك أن الثورة حدث وانتهى، نازلة نزلت بالأمة وليس لها أثر، أن تكون ذكرى من ذكريات الماضي، هذا لم يقل به أحد من علماء الاجتماع ولا التاريخ، ولا يجرؤ عارف بالتاريخ أن يذكره، هذا لا يعني أن رأي المثقفين حول أهداف الثورة صحيح فالثورة ليس لها أهداف، هي حدث كالزلازل والأمراض، شيء ما يصيبك لا قبل لك، وإن كانت تختلف بأن الناس جزء منه، لكن أسبابها الحقيقية كامنة في توازن المجتمع والعلاقة بين الناس الحكام، حين تفقد السلطة شرعيتها، وحين يختل التوازن بين السلطة والمجتمع، وتبدأ الثغرات في الظهور وتتراكم وتصل إلى نقطة الانفجار، هنا يحدث حدث مفاجئ يغير في نفسية المجتمع، وهيكلة الاقتصاد، وطبيعة المجتمع، والنظام السياسي وثقافة الأجيال القادمة؛ كل هذه التغييرات هي ما نسميه الثورة.

هذا يعني أن الرأيين ليسا صحيحين بالمعنى الفلسفي للثورة، فالثورة حدث قادر على تحريك كل شيء في المجتمع، وهي ليست كيانا واعيا حتى يكون له أهداف، المجتمع هو الذي يجب أن يكون له أهداف، لا تطلبوا من الثورة أن تقوم عنكم بشيء فهي ليست بصنم حتى ترجموه، ولا سياسي حتى تقولوا إنه سبب إخفاقاتكم، وليست قدراً لا يمكن الانفكاك عنه، هي أشبه بالألم الذي يدلك على الداء، هي أعراض لمرض مزمن داخل هذه المجتمعات، هي مسار يشير إلى خلل كبير داخلنا وفيما بيننا. إذا أدركنا ذلك فإن سؤال هل انتهت فبراير؟، هو سؤال خاطئ تماماً، ستظل ثورة فبراير وأي حدث اجتماعي بحجم فبراير فاصلة وتحول كبير في تاريخ الأمة الليبية، وتظل آثارها قائمة وجزءا لا يمكن أن يحذف من تاريخ ليبيا؛ من الخطأ تماماً أن تتحول إلى حزب سياسي لأنها ستكون كارثة وستمارس ما مارسته الأحزاب المستبدة، ومن الخلط المعرفي المنكر كذلك أن يقال إنها حدث وانتهي، الصواب الثورات قدر، والعاقل من نازع القدر لا من سار معه.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي القناة وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

Author
استشاري نظم صحية وباحث للعديد من مراكز الدراسات مؤلف العديد من الكتب المنشورة سياسي وخبير في…
Total
0
مشاركة
مقالات ذات صلة