من اعتزال الفتنة إلى حمل السلاح.. كيف تغير التيار المدخلي في ليبيا؟

مقدمة:

بالتزامن مع حركة موجات الربيع العربي، برزت تيارات الإسلام السياسي على سطح الفضاء العام العربي، وبدأت بالتعبير عن نفسها بعد أن قُدّر لها أن تبقى في مساحات الظلَ فترة، جراء العداء المتبادل بينها وبين أغلب الأنظمة الحاكمة بالمنطقة، والذي وصل في بعض الأقطار حد تجريم العمل الجماعي تحت أي شعار، ماأدى إلى حرمان قطاع واسع من الإسلاميين من الحركة بشكل واضح ومعلن، جماعات وفرادى.

وبغض النظر عن جدوى ما قدّمته الجماعات الإسلامية بعد الربيع العربي ومازالت تحمله من مضامين، فإنها في أغلبها كانت تنتهج سلوكا مناوئا للأنظمة وداعما للحراك الثوري، وبصرف النظر أيضا ما إذا كانت هذه الجماعات تجيب في حركتها عن أسئلة الواقع والمجتمع أم لا، وهل ساهمت في دعم المسار الثوري أم أنها أنهكته وعطّلت مساره في بعض المحطات، فاللافت هنا هو وجود فصائل إسلامية وقفت ضد “الربيع العربي” منذ انطلاقته بصورة واضحة عبر فتاوى مشائخها الذين لم يتغيبوا عن شاشات الأنظمة الحاكمة إبان الثورات رغم أنهم حرموا من ذلك عقوداً من الزمن، لتصل جهودهم في التأصيل الشرعي إلى حد نحت مفاهيم من قبيل “لزوم البيت أثناء الفتن” بدايةً، وصولا إلى انخراط أتباعهم بعد ذلك في أعمال عسكرية وحملهم السلاح نصرة لـ “الحاكم المتغلب” فيما بعد.
وربّما كان التيار السلفي المدخلي في ليبيا أو مايعرف بـ”المداخلة” نموذجا يُلتفت إليه في هذا الإطار، على اعتبار أنه تيار يمكن أن يقال عنه بأنه أجرى تغييرا في أفكاره الحاكمة “paradigm shift”، أوعلى أقل تقدير فإنه قد قام بعملية “إعادة إنتاج الخطاب” إذا جاز لنا هنا أن نستعير مفهوم المفكر الفرنسي “ميشيل فوكو”، فقد تبدّلت المفردات الأساسية للسلفية المدخلية من كونه تيارا يقوم على الأساليب الدعوية من ” محاربة البدع وإقامة التوحيد” إلى حشد أتباعه ومناصريه على شعارات جديدة من قبيل “محاربة الإرهاب، وقتال الخوارج” وهي مضامين تحمل صبغة جهادية.

المداخلة..نشأتهم وأفكارهم المركزية:

مع بداية حرب الخليج مطلع تسعينيات القرن الماضي، برز التيار الجامي الذي ينسب إلى مؤسسه محمد إمام الجامي الإثيوبي الأصل، مبررا لفكرة الاستعانة بالقوات الأمريكية إلى المملكة العربية السعودية لمواجهة القوات العراقية، في مقابل تيار الصحوة الإسلامية الرافض لاستقدام القوات الأمريكية إلى الأراضي المقدسة، وهو ما جعل التيار الجامي ينال رضا دوائر صناعة القرار في السعودية.
وكان من أبرز من تصدروا حملة تبرير الاستعانة بالقوات الأجنبية شرعيا الشيخ “ربيع بن هادي بن عمير المدخلي” وألّف كتابا أسماه بـ “صد عدوان الملحدين وحكم الاستعانة بغير المسلمين”، وهاجم من خلاله الفتاوى التي ترفض “الاستعانة بغير المسلم لقتال المسلم”، ومنذ ذلك الحين سطع نجم المدخلي شيخا مواليا للسلطة السعودية بصورة مطلقة.

منذ ذلك الحين تخصص التيار الجامي في نقد أدبيات رموز الصحوة وتقييم تعاطيهم مع الواقع، وازدهر نشاطهم في كتابة التقارير ضد من يعارض النظام، وإيصالها للدوائر الحكومية، مأجورين على جهودهم الحثيثة بدعم من المملكة، وتسهيل انتشار، وتقريبهم للقصور. من جهة أخرى استغل النظام ولاء بعض الأطراف الصوفية والشيعية من المهمشين داخل المملكة.

ويرى الأستاذ بمعهد العلوم السياسية في باريس ستيفان لاكروا في كتابه “زمن الصحوة” أن التيار المدخلي قام على أمرين: أولهما التأييد المطلق للسلطة انطلاقا من ظواهر النصوص التي تؤكد على طاعة الحاكم. دون منح أدنى فرصة لمخالفته لأن نقد السطان قد يكون مدخلا للفتنة، أما الأمر الثاني الذي قام عليه التيار المدخلي فهو الطعن في المخالفين وتبديعهم ونقد تيار الصحوة بشكل حاد دون السماح بأي درجة من درجات الاختلاف.

منذ ذلك الحين تخصص التيار الجامي والذي سمَي فيما بعد بالتيار المدخلي في نقد أدبيات رموز الصحوة وتقييم تعاطيهم مع الواقع، ليس من منطلق “النصيحة والأمر بالمعروف” فحسب، بل من باب دعم السلطات السعودية بتقارير تسهم في دعم الأجهزة الأمنية، ومن أشهر ماقاموا به منتصف التسعينيات التقرير الذي كتب تحت عنوان: “التنظيم السري العالمي بين التخطيط والتطبيق في المملكة العربية السعودية” وقدّموا خلاله توصياتهم للسلطات السعودية بالتحرك العاجل ضد تنظيم الإخوان المسلمين، قائلين إن ممارسات الإخوان ترتبط بخطة عالمية لتغيير نظام الحكم في المملكة، وهو الأمر الذي لاقى قبولا لدى السلطات السعودية التي شنت حينها حملة اعتقالات واسعة على الدعاة والعلماء المحسوبين على تيار الصحوة الإسلامية في المملكة..

بعد حرب الخليج الثانية تبنت السلطات السعودية السلفية المدخلية، واستدخلتها في أجهزتها الإيديولوجية، وتنامت أدوارها وزاد نفوذها بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، إذ باتت السلفية المدخلية أحد أهم أركان الجهاز الإيديولوجي للدولة، وذلك بحسب الباحث المختص في شؤون الحركات الإسلامية حسن هنية.
ويرى هنية أن السعودية عملت على دعم السلفية المدخلية عربيا وإسلاميا، لمواجهة أطروحات التيارات الإسلامية السياسية، وأن مقاربة الرعاية مقابل الولاء مكنت السلفية المدخلية من التموضع داخل المؤسسات التعليمية والإعلامية والمساجد والمؤسسات المعنية بالشؤون الدينية.
كيف ظهروا بليبيا وما أدوارهم؟

على مدى أكثر من 40 عاما، ظلّت التنظيمات والتكتلات أمرا مجرّما، لأن “من تحزّب خان” بحسب منطق الكتاب الأخضر الذي ظلّ مرجعية فوق دستورية ثورية طوال فترة حكم القذافي، وقد ذاق التيار المدخلي في أول الأمر ما نالته بقية التيارات الإسلامية والمنتمون للتنظيمات السياسية، على هذا الأساس.
ورغم أنهم كانوا يقبعون في سجون نظام القذافي، إلا أنه وبحسب شهادات بعض السجناء الذي كانوا يقبعون معهم، فإن أتباع التيار المدخلي ظلوا يقومون بتقديم توصياتهم لسجّانيهم من رجالات أمن النظام عن خطورة باقي التيارات والحركات الإسلامية، حتى أن بعضهم تعاونوا مع النظام فيما بعد لتقديم تقارير أمنية دورية للأجهزة الأمنية، ويبررون ذلك بأنها خدمة لولي الأمر وطاعة له فيما “يخدم صالح البلاد والعباد”.
بعد أحداث سبتمبر 2001 ومع محاولاته بدء عمليات إصلاحية بضغوط أمريكية، استهلها نظام القذافي بإطلاق سراح دفعات من السجناء السياسيين على اختلاف مشاربهم، وأثناء ذلك حاول النظام الليبي منح مساحات أوسع للمداخلة في الفضاء العام الديني، إذ يشير تقرير مسرب من المخابرات الليبية أن نظام القذافي أدرك في منتصف العقد الماضي، أن المداخلة مختلفون عن باقي التيارات الأخرى وأنهم سيكون بمثابة الاسفنج الذي يمتص العواطف الدينية للشباب الراغب في التدين إذا ما كانت هنالك دعوة مناهضة للنظام، وهو ما جعل النظام يسمح لهم بالعمل والحركة طالما أنهم لا يرغبون في ممارسة السياسة.

حملة استيعاب التيار المدخلي لصالح الدولة قادها نجل العقيد الليبي الساعدي القذافي، وبحسب التقرير المخابراتي فإن اتجاه الساعدي للتيار السلفي كان بتوجيه من الأب والمنظومة الأمنية في إطار توزيع القذافي لأدوار اللعبة بين أبنائه، فيما تبنى سيف الإسلام نجله الأكبر تفاهمات مع الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة، مقابل تخفيف حدة المعارضة وإطلاق سراح سجناء الجماعتين والمضي في الإصلاحات.

مع بدء ثورة 17 فبراير عام 2011 توسّعت مساحات تعبير التيار المدخلي عبر المنابر الرسمية للدولة، وباتوا التيار الديني الأكثر حضورا في شاشات نظام القذافي رافضين للتحركات الشعبية، داعين الناس للعودة إلى منازلهم، انطلاقا من خطاب أساس حرمة “الخروج على ولي الأمر” و”الثورة فتنة”، فيما عاد الساعدي آنذاك بعد غيابه إلى الظهور بمظهر السلفي في أكثر من مرة قائلا إن الدولة منحت “ضوءا أخضر” للتيار السلفي المدخلي، مطالبا بضرورة تمكينهم من هيئة الأوقاف والمساجد، لأنهم أحق من غيرهم وأثبتوا وقوفهم مع الدولة، بحسب تعبيره، ويأتي ذلك بعد أن وجّه المدخلي أنصاره في ليبيا لأن يلزموا بيوتهم ويتجنبوا الدخول في الثورة.

حمل السلاح.. مرحلة جديدة:

بعد سقوط القذافي، أقدم المداخلة على تنظيم أنفسهم في مجموعات أمنية وعسكرية كان الهدف هو القيام بأعمال غير سياسية في ظاهرها، من هدم الأضرحة والقبور وإقامة دوريات لمكافحة تجارة المخدرات، واستهلاك الكحول، وسواها من الأنشطة التي يعتبرونها غير إسلامية، في خطوة لاستعادة ثقة الرأي العام بعد أن كان غير موثوق بهم جراء معاداتهم لثورة فبراير.
وبحسب المختص في شؤون الجماعات الإسلامية حسن أبوهنية فإن السلفية المدخلية تحولت بعد الثورات عموما من الدور الإيديولوجي إلى المجال العسكري، عبر إنشائها هياكل عسكرية ومليشيات مسلحة في ليبيا، مستغلة عدم وجود مؤسسات عسكرية راسخة، وهو نمط شائع لدى الفصائل الليبية المتحاربة الأخرى، الإسلامية وغير الإسلامية، التي سعت إلى توسيع نفوذها داخل الجهاز الأمني وتغييره جوهريا عبر اختراقه بأفرادها.
في أواخر عام 2013 انفجرت سيارة مفخخة أودت بحياة أحد مشايخ التيار المدخلي البارزين ومسؤول ديني بمدينة بنغازي يدعى كمال بزازة على يد مجموعات مجهولة، إلاّ أن هناك من وجه الرأي العام صوب مجموعات مسلحة محسوبة على الإسلاميين، ما دفع مجموعات واسعة من التيار المدخلي إلى إعادة تنظيم أنفسم في مجموعات مسلحة، في رد فعل انتقامي ضد خصومهم التقليديين في الساحة الإسلامية.

ولقد وظف حفتر التيار المدخلي كما فعل القذافي، لمواجهة الحركات الإسلامية المناوئة له، مستفيدا من دعمم له عسكريا في الأعمال العسكرية، ودينيا عبر فتاويهم وخطابهم الديني، وهو ماساهم في ظهور كتائب مدخلية وتولي أشخاص من المداخلة عديد المناصب في قوات حفتر، مثل فوزي المنصوري الذي يتولى قيادة غرفة عمليات اجدابيا وعبدالرحمن الكيلاني آمر كتيبة سبل السلام في الكفرة، وميلود الزوي الناطق باسم القوات الخاصة ببنغازي، وعلي ثابت المتحدث باسم القوات البحرية، وهي قرارات لم تحدث قط في تاريخ الجيش الليبي عبر تولي أناس مؤدلجين زمام قيادته على أساس خلفياتهم ومشاربهم.

المداخلة وتوزيع الأدوار:

يمارس التيار المدخلي عبر وجوده في شرق البلاد وغربها نفوذاً سياسياً على الحكومتين المتنافستين اللتين نشأتا بعد عام 2014، بحسب”مجموعة الأزمات الدولية”، فوفقا لتقرير المخابرات الليبية فإن التيار المدخلي في ليبيا اعتمد على قيادات ليبيين يمثلون الوكيل الحصري لتوجهات ربيع المدخلي لمواكبة التطورات المحلية الخاصة بالقطر الليبي، وتوزّع قادة ورموز التيار المدخلي على اتساع الجغرافيا الليبية، فقد مثل مجدي حفالة أهم شخصية وهو بمثابة زعيم التيار في غرب البلاد، إلى جانب طارق درمان الزنتاني والذي يكتسب دوره من تتلمذه على يد الشيخ مقبل الوادعي في اليمن، ويمثل ركيزة التيار في الجبل الغربي، إضافة إلى أنور سويسي في مصراتة والذي يصفه بعض أهالي مصراتة بأنه يمثل تيار حفتر دينيا في المدينة الأكثر وقوفا ضد مشروعه العسكري في البلاد.

أما في شرق البلاد فقد لعب أشرف الميار دورا في استيعاب المداخلة في العمل العسكري في بنغازي إبان إطلاق حفتر عملية عسكرية أسماها بـ “عملية الكرامة”، وذلك عبر قيادته لكتيبة التوحيد السلفية في حينها والتي قاتلت في صفوف قوات حفتر، بالإضافة إلى عبدالفتاح غلبون والذي يمثل صنفا من شرعيي المداخلة الذين تحولوا إلى العمل العسكري، وعرف بقربه من الرائد محمود الورفلي، والمطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، على خلفية ارتكابه جرائم وإعدامات ميدانية ترقى إلى “جرائم حرب.
بعد سيطرة حفتر على شرق ليبيا تسلّم التيار المدخلي زمام الأمر الديني، على اعتبار أنهم التيار الديني الوحيد الذي كان واضحا في عدائه للإسلاميين وعليهم تتأسس سرديته الكبرى كما أسلفنا سابقا، ومن ملامح ذلك أنهم أسسوا دار إفتاء في الشرق موازية لدار الإفتاء الرسمية في طرابلس، وتزعموا إدارة الشؤون الدينية عبر الهيئة العامة للأوقاف، بواسطة قيادات أغلبها تعود أصولها إلى قبائل الشرق ـ حيث الحكومة الموازية في الشرق والموالية لحفتر ـ في محاولة من التيار المدخلي للجمع بين الدورين الديني والاجتماعي، ومن أمثال قياداتهم: الأخوين أنس وسند الحداد، وموسى طيب العلواني، وموسى سالم، ويملك هؤلاء بحسب تقرير المخابرات الليبية علاقات مع مجموعات مسلحة تمتهن الخطف والاعتقال بحق مخالفيهم، وبحسب وزارة الأوقاف فإن المداخلة يسيطرون على 80 بالمئة من مكاتبها، ويتولون الإمامة والخطابة بأكبر عدد من المساجد المنتشرة في البلاد، لضمان حصر الخطاب الديني في لون واحد يتوافق وتوجهات التيار.

في الضفة الأخرى، تعمل قوات الردع الخاصة بقيادة الملازم عبدالرؤوف كارة في طرابلس تحت إمرة من يسيطر على العاصمة، فأعلنت تعيتها للمؤتمر الوطني حينما أطلق عملية فجر ليبيا عام 2014، وهي عملية عسكرية أطلقت ضد مجموعات مسلحة تتبع لقوات حفتر، وكسبت بذلك دورا فاعلا في مرحلة “ما بعد عملية فجر ليبيا”، لتعلن بعد ذلك تبعيتها لحكومة الوفاق -الحكومة المعترف بها دوليا- والتي أعلن حفتر فيما بعد حربه ضدها، ولقد عملت قوات الردع على أن تنأى نفسها عن أي مواقف واضحة، وركزت على ملاحقة المنتمين لتنظيمات الدولة الإسلامية والقاعدة، رغم أنّ بعض منتقديها يوجهون اللوم لقوات الردع بوصفها عملت على إلصاق هذه الاتهامات ضد كل من يخالف توجهاتهم.

وتؤكد المخابرات الليبية في تقريرها صعوبة إطلاق وصف دقيق وجامد حول خلفيات قوة الردع الخاصة ومنهجها بالنظر إلى التناقض في تصرفاتها واختلاف وجوه تفاعلها، إذ يبدو واضحا بحسب التقرير أن القوة لديها إما القدرة والمرونة أو الشيزوفرينيا والبراغماتية في تعاطيها مع قضايا الشأن العام، ففي الوقت الذي يغلب على أتباعها ميولات ذات طابع سلفي مدخلي، عبر اعتقالها لمشايخ ومسؤولين في الأوقاف مخالفين للتيار المدخلي، فإنها في المقابل أعلنت في فترات زمنية متباعدة تأييدها لأجسام سياسية مثل “المؤتمر الوطني العام، وحكومة الوفاق” وعملية فجر ليبيا، وهي أحداث وكيانات تضم في داخلها “إسلاميين” على اختلاف ألوانهم، وهم الذين يعتبرون الخصم التاريخي لهم.

المداخلة والقوة الناعمة:

وإلى جانب دورهم العسكري، لم يهمل التيار المدخلي دور الفضاء الإعلامي وتحركوا فيه بأسلوبهم ومضامينهم الخاصة، وأنشأوا فضاءات إعلامية مختلفة ركزت في أغلبها على البث الإذاعي دون الفضائي، وربما يعود ذلك إلى موقفهم من تحريم التصوير وماشابه من مواد تعد هي الأساس في العمل التلفزيوني.
ومن خلال البحث فقد تبين أن للتيار المدخلي ثمانية وعشرين إذاعة موزعة على امتداد الجغرافيا الليبية، وتبدأ من طبرق قرب الحدود المصرية، وصولا إلى الزاوية غربي البلاد، وصولا إلى عمق الجنوب الليبي حيث الكفرة جنوب شرق ليبيا ومرزق جنوب غربها.
يضاف إلى ذلك، الحضور الإلكتروني في عدد من المواقع والمنتديات مثل شبكة البينة السلفية، وشبكة الورقات السلفية، ومنبر الدعوة السلفية، ومواقع على صفحات التواصل الاجتماعي مثل: “الدعوة السفية في ليبيا، وقناة سبها، ومصراتة السلفية، وبنغازي السلفية، وصبراتة السلفية”.

حرب طرابلس.. يد مع حفتر وأخرى مرتعشة:

مع بدء هجوم قوات حفتر على العاصمة طرابلس، اتجهت الأنظار نحو التيار المدخلي، فبينما توجس أنصار حكومة الوفاق من تأييدهم لحفتر كما جرى شرق ليبيا، انتظر مناصرو الأخير موقفا يقلب موازين المعركة من داخل العاصمة لصالح حفتر، وفي موقف مشابه للتوقعات انضم المداخلة خارج العاصمة إلى صفوف حفتر، بينما شجع أتباعهم في داخل طرابلس المقاتلين على الإنزواء واعتزال الفتنة.
وفي الإطار ذاته كتبت مجلة إيكونوميست تقريرا تحت عنوان “الطابور الخامس السلفي” أكدت فيه أن التيار المدخلي بناء على شهادات ومعلومات ـيعمل على التأثير على معنويات الناس، ويتواصلون بشكل مستمر مع إخوانهم الذين يقاتلون مع حفتر ويمثلون بذلك “طابورا خامسا” داخل طرابلس.
وفي أول اختبار لموقفهم تجاه حرب حفتر على العاصمة طرابلس، ومع تقدم قواته نحو سرت، أعلنت الكتيبة المدخلية 604 انضمامها لقوات حفتر والانقلاب على قوات مصراتة، وتعود قصةالكتيبة إلى العام 2015، عندما أعلن إمام مسجد قرطبة بمدينة سرت “خالد بن رجب الفرجاني” وهو أحد شيوخ التيار المدخلي بالمدينة، انتقادات علنية لتنظيم الدولة الإسلامية ومنعهم من استخدام المسجد لإلقاء الخطب، مادفع التنظيم إلى اغتياله، وكانت تلك شرارة انتفاضة مسلّحة قام بها سكّان الحي الثالث في سرت، لكن الحملة المناوئة للتنظيم فشلت ليستعيد سيطرته على المدينة بعد ذلك.
في الأشهر اللاحقة، فرّ بعض مقاتلي قبيلة الفرجان خارج سرت وتوجهوا إلى طرابلس، بعد أن كان شقيق الإمام الراحل “بن رجب” قد شكّل الكتيبة 604 مشاة التي حظيت بدعمٍ في طرابلس، ليصل عدد عناصرها في نهاية العام ذاته إلى نحو 450 عنصرا، وكان أغلبهم سلفيون وينتمون إلى قبيلة الفرجان، وهي القبيلة ذاتها التي ينتمي إليها حفتر.
في مايو من عام 2016 باتت الفرصة سانحة للكتيبة للثأر، فانضمّت ضمن حملة عسكرية تزعمتها قوات مدينة مصراتة تحت اسم “عملية البنيان المرصوص” لاستعادة مدينة سرت من قبضة تنظيم الدولة، وبعد أن سقطت المدينة من قبضة التنظيم كليا أبرمت الكتيبة تفاهمات مع قوات مصراتة ضمنت لهم البقاء في المدينة للتأمين والتمركز فيها، إلاّ أن الكتيبة المدخلية تخلت عن تفاهماتها مع قوات مصراتة وقررت الانضمام لحفتر بعد حملته العسكرية ضد قوات الوفاق مطلع العام الجاري، في خطوة أعادت الشكوك والريبة في صفوف قوات الوفاق تجاه التيار المدخلي، وقد يكون عامل انتماء أغلب منتسبي الكتيبة إلى قبيلة الفرجان التي ينتمي إليها حفتر عاملا آخر ساعد في الانضمام إلى قواته.

خلاصة:

بطبيعة الحال فإن تصاعد دور المداخلة لا سيما في الأجهزة الأمنية والعسكرية والمؤسسات الدينية يعدّ نتيجة طبيعية لاستمرار النزاع في البلاد، إذ لم يشهد السلفيون انتشارا مثل ما يشهدونه اليوم في ظل الفوضى والانقسام، وشأنهم في ذلك شأن المجموعات الأيديولوجية التي تلجأ في لحظات هشاشة الدولة إلى محاولات الاستيلاء على دورها، وهنا تبدو أهمية اعتماد مقاربة لتحرير أجهزة الدولة من النفوذ الأيديولوجي، عبر “سياسة الاحتواء” شرط أن يجري دمهم كأفراد وفقا لتأهيلهم وليس على أساس ارتباطاتهم وانتماءاتهم، فاستيعاب هذا النوع من المجموعات الأيديولوجية سيدفع باتجاه استخدام الدولة ومؤسساتها أدوات في سياق تصفية الخصومات الأيديولوجية بدل أن تكون أرضية جامعة في إطار الاستقرار.

ويساور الشكوك فئات واسعة من الليبيين إزاء مستقبل البلاد في ظل استمرار توسع دور التيار المدخلي لا سيما في ظل عدم اعترافه بالآخر وتوظيفهم المنابر الدينية التي سيطروا عليها ضد مخالفيهم من قبيل “الصوفيين، والعلمانيين، والإخوان المسلمين وغيرهم” على أساس خطاب أحادي لا يقبل الاختلاف في حدوده الدنيا وذلك ينعكس في رفضهم الانخراط في الانتخابات ومعاداتهم للديموقراطية.
ورغم أن التيار المدخلي المسلح منتشر في شرق البلاد وغربها، إلاّ أنه وبحسب شهادات قام بها مركز كارنيغي للشلاق الأوسط، فإن عددا من الفرقاء الأمنيين والعسكريين في طرفي البلاد تساورهم الشكوك حول أهداف السلفيين ومستقبلهم، لا سيما في ظل ارتباطهم بخطاب يجري تدويره من مشايخ لهم ارتباطات بدوائر صنع قرار إقليمية، وهذا يضع الدول التي تتيح منابر لمشايخ هذا التيار تحت طائلة المسؤولية الأخلاقية والقانونية.

المراجع:
1- كتاب زمن الصحوة: تاريخ الصحوة الإسلامية في السعودية – ستيفان لاكروا
2- تقرير ميدل إيست آي
3- تقرير “وداعا للهدوء” مركز كارنيجي للشرق الأوسط
4- تقرير “معالجة صعود السلفية المدخلية في ليبيا” الصادر عن مجموعة الأزمات الدولية
5- مقال الباحث المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية “حسن أبوهنية”
6- لقاء مع الساعدي القذافي نجل العقيد الليبي القذافي إبان انطلاق الثورة ضد نظام والده
7- مكالمة للشيخ ربيع المدخلي يدعو فيه أتباعه بليبيا لدعم حفتر
8- لقاءات ومقابلات مباشرة ومصادر أصلية
9- تقرير مسرب للمخابرات الليبية

Total
0
مشاركة
مقالات ذات صلة