طرابلس تلاحق حفتر .. والجرائم لا تسقط بالتقادم

الفوز والهزيمة في الحرب ليست في ميدان المعارك وحدها، فكثير من المعارك المصيرية عبر التاريخ ربحها أصحابها أو خسروها في ميادين السياسة والدبلوماسية ودون طلقة رصاصة واحدة، لكنّ القوانين الحديثة والمواثيق الدولية التي شرّعها المجتمع الدولي لانتزاع الحق لأصحابه وتسوية النزاعات بما تمليه تلك الشرائع، داستها الحروب الهوجاء ابتداء من الحربين العالميتين الأولى والثانية، اللتين رسختا ميزانا آخر للحق يميل إلى الأقوى على ميادين المعركة، أو ما يسمى أيضا بسلطة الأمر الواقع، والقليل القليل من الحروب تمكنت الهيئات الدولية من تسويتها بالحوار، وحتى ذلك الحوار كان محكوما بشروط الأقوى على الأرض ولو كان ظالما لا حق له.

النزاع القائم في ليبيا منذ سنوات وخاصة بعد اتفاق 2015 السياسي، وظهور ما سمي “عملية الكرامة” قبله بسنة، لم يشذ على القاعدة البدائية المتوحشة: “البقاء للأقوى” ولطالما خلعت العديد من الدول “الديمقراطية” وإعلامها “النزيه” على خليفة حفتر لقب “رجل ليبيا القوي” أو “الرجل القوي شرق ليبيا” على القاعدة نفسها، دون نظر في ميزان الحق القانوني أو الشرعية الدولية، وإلا فإن ذلك المجتمع الدولي نفسه هو الذي أقر، وفق قانون التوافق، بشرعية حكومة واحدة هي حكومة الوفاق الوطني، بما يعني فقدان حفتر طوال تلك السنوات لأي شرعية قانونية إلا سلطة الأمر الواقع.

وعندما رُفع عن المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة “واجب التحفظ” الذي يُتمسك به للمحافظة على أسرار القضاء وأسرار الدولة، ولا ينطبق في الحقيقة على وضع سلامة، إلا إذا كان تكتما على صفقات دولية، تكلم بالحقيقة التي طالما عرفها ولم يجرؤ بالصدوع بها، وقال صراحة إن دولا فاعلة بمجلس الأمن الدولي ولاعبة أساسية في الأزمة الليبية، “طعنته في الظهر” بينما كان يضع اللمسات الأخيرة للمؤتمر الوطني الجامع في مدينة غدامس.

ومن كان غير دولة الإمارات والسعودية ومصر وفرنسا وروسيا التي أعطت الضوء الأخضر لحفتر ودعمته بالسلاح والمرتزقة لشن حربه على طرابلس قبل مؤتمر السلام المزمع بنحو أسبوع واحد، وفي حضرة أمين عام منظمة الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي مازال على خطى نائبه غسان سلامة قبل استقالته، لا يقول الحقيقة كاملة ولا شيء غير الحقيقة لو كان شاهدا عدلا، من كان غير تلك الدول هي التي طعنت، القانون الدولي في الظهر وفي مَقاتل كثيرة، وفي وضح النهار وبشهادة الشهود.

“واجب التحفظ” لم يُرفع عن سلامة فحسب، بل أصبح الجميع يتحدثون عن خطيئة حفتر وإن بتعبيرات مختلفة وبمقادير متفاوتة من الوضوح والصراحة، غوتيريش عبر عن قلقه من سقوط ضحايا مدنيين وموظفي الإغاثة الإنسانية جراء الألغام التي زرعتها مليشيات حفتر، وحذر من وجود المرتزقة في ليبيا، ولم يرتق خطابه إلى مستوى الوضوح لتحميل تلك المسؤولية لأصحابها، أما وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان فقد أكد في كلمة له أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الفرنسي، أن بلاده دعمت حفتر في حربه ضد ما يعرف بتنظيم الدولة، وأن هذا الدعم لم يكن عسكريا، وإنما سياسيا واستشاريا، وكان ذلك قبل حربه على طرابلس، متنصلا بذلك من الجريمة الأكبر التي تلاحق بلاده بالضلوع في قتل الليبيين وتدمير منازلهم وزرع الألغام فيها على امتداد 14 شهرا.

جلسة مجلس الأمن الدولي الأخيرة حول ليبيا، كانت مختلفة عن سابقاتها إذ كشفت مسيرة الصراع في ليبيا وبدت إدانة حفتر في تعطيل مسار حلها أكثر وضوحا، فبينما ظن الأخير أن مغامرة الرابع من أبريل 2019 قد مرت دون محاسبة، بدأ المجتمع الدولي ينبش في السيرة والمسيرة للمغامر الغبي الذي ظنّ نصره قريبا واغتر بقوته ليرتكب كل أنواع الجرائم المحرمة دوليا، وكل ذلك تحت غطاء “الأمر الواقع” الذي يجُبّ ما قبله.

أما وقد سار الواقع على خلاف ما اشتهى المتآمرون على شرعية الوفاق ومخرجات التوافقات الدولية، وأصبح الواقع واقعا آخر، فقد عاد الجميع إلى خطيئة حفتر الكبرى بقراره غزو طرابلس، ومثلت شهادة وزير الخارجية الروسي سيرغاي لافروف خير دليل على تلك الإدانة، عندما قال إن حفتر رفض التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في موسكو الذي رعته تركيا وروسيا في يناير الماضي، لاعتقاده حينها أن موقفه على الأرض هو الأقوى، وإنه مستعد حاليا لتوقيع اتفاق فوري لوقف إطلاق النار في ليبيا، وفي ذلك إقرار بأن حفتر قد هزم ولم يعد الأقوى.

مصر التي تتحرك بــ”الروموت” الإماراتي، حاولت إنقاذ مشروعها بعد فشلها بما سمته “إعلان القاهرة”، لوضع خارطة طريق لمستقبل ليبيا حضره رمزا الهزيمة حفتر وعقيلة صالح، وغُيّب عنه الطرف المنتصر صاحبُ الشرعية، لكن المبادرة فشلت فمرّ السيسي إلى سيناريو التهديد بالتدخل العسكري المباشر، ورسم خطي سرت والجفرة، حدودا يمنع على حكومة الوفاق تخطيها، لكن هذا السيناريو بصدد التآكل، بعد إصرار الجيش الوطني في طرابلس على تحريرهما، والإعداد لساعة صفر مرتقبة في كل لحظة.

الطاهر السني ممثل حكومة الوفاق بمجلس الأمن الدولي، طالب الدول المتدخلة في الأزمة الليبية، بالكف عن اقتراح المبادرات ودعم حكومة الوفاق في محاسبة حفتر على جرائم المقابر الجماعية في ترهونة ونزع الألغام التي زرعتها مليشياته جنوب طرابلس، معبرا عن عزم حكومته على تحرير سرت والجفرة وباقي التراب الليبي، وبسط سيطرتها عليها خاصة بعدما أصبحت تلك المناطق تعج بالمرتزقة الروس وغيرهم.

واستند السني في دعوته لتلك الدول الداعية إلى مؤتمرات السلام والعودة إلى الحوار السياسي وكأن شيئا لم يحدث، وبنفس الشخوص القديمة، استند إلى فقدان الليبيين للثقة في وساطة الأمم المتحدة عبر مبعوثيها الستة، وفي الدول التي تمارس النفاق السياسي منذ سنوات، بدعمها الظاهر والخفي للقوى المتمردة على الدولة من جهة وإعلانها الاعتراف بشرعية حكومة الوفاق من جهة أخرى.

وأما بخصوص الإمارات فقد تساءل المندوب الليبي عن مبررات وجودها في الحوارات السياسية بين الليبيين، فلا هي دولة حدودية ولا مطلة على البحر المتوسط، ولا عضوا دائما بمجلس الأمن، وإلا فإنهم سيفرضون مشاركة دول أخرى لخلق توازن في تركيبة الدول المشاركة في أي حوار، كما أن مصر فقدت حيادها المزعوم ولم تعد طرفا في الوساطة.

وإذا كانت سياسة المجتمع الدولي قائمة على سلطة الأمر الواقع، ومنها تسرّبَ حفتر إلى الساحة الوطنية والدولية، فإنّ الواقع الحالي يضع حكومة الوفاق في الصدارة، وقد أثبتت أنها أقوى من حفتر وكل داعميه مجتمعين، هذا فضلا عن شرعيتها القانونية، وتبعا لذلك فإنّها ستفرض شروطها على الجميع وستخوض بقية معاركها لحسم الخلافات الداخلية والخارجية حول شؤونها.

وإذ لم تكن حكومة الوفاق منذ اتفاق الصخيرات بهذه القوة ولم يكن مذاك بهذا الضعف، فإنّ الفرصة سانحة للدفع بمشروع التأسيس لمرحلة دائمة في البلاد تنهي الوضع الانتقالي الحالي، عبر عرض مشروع الدستور على الاستفتاء، وإصدار قانون انتخابي قبل إجراء انتخابات عامة، تكون منطلقا لبناء دولة ليبيا الديمقراطية المنشودة.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي القناة وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

Author
صحافي تونسي حاصل على باكالوريوس آداب ولغة عربية
Total
0
مشاركة
مقالات ذات صلة