من جزيرة الفرناج إلى سرت.. انتصار البركان وهزيمة الطوفان!

حتى إعلان الجيش الليبي تحرير الحدود الإدارية لطرابلس الكبرى، ثم ترهونة معقل مليشيات حفتر بالمنطقة الغربية، وتلاها تحرير بني وليد والعربان؛ خاض الجيش معارك طويلة وعنيفة، بدأت بمقاومته الباسلة لهجوم المليشيات في مطلع أبريل 2019 بعد تسلّلها إلى طرابلس من غريان وترهونة، مرورا بإطلاق عملية بركان الغضب ثم عاصفة السلام فدروب النصر.

بداية الهجوم

في الرابع من أبريل 2019 أمر حفتر مليشياته بالتقدم صوب طرابلس وأطلق عملية “طوفان الكرامة” تزامنا مع زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للعاصمة قادما من بنغازي، وقبل أيام قليلة من مؤتمر جامع كان مزمعا أن يُعقد وأعدت له الأمم المتحدة لوضع خارطة طريق سياسية لإخراج البلاد من أزمتها.

بداية العدوان


تقدمت المليشيات فعلا وتمركزت في الضواحي الجنوبية للعاصمة بتحالف مع آمر القوة الرابعة لدرع ليبيا في غريان “عادل دعاب” الذي كان يُصنف كإرهابي لدى حفتر، سلّم دعاب مدينة غريان “80 كم جنوب غرب طرابلس” التي يتمركز فيها لحفتر ومنها بدأ التقدم إلى طرابلس.

 آمر القوة الرابعة لدرع ليبيا في غريان عادل دعاب 


على جانب آخر من تخوم العاصمة تقدمت مليشيا الكانيات التي تسيطر على ترهونة “90 كم جنوب شرق طرابلس” وهي مليشيا متورطة في مئات الجرائم داخل ترهونة وكانت تصنف بإنها إرهابية أيضا لدى حفتر، وقد فشلت قبل عام في دخول طرابلس عندما هاجمتها للضغط على حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، وبعد الفشل وقع أعيان ترهونة على اتفاق يلزمهم بعدم المشاركة مستقبلا في أي اعتداء على طرابلس، لكنهم لم يلتزموا بالاتفاق الذي رعاه أعيان مدينة بني وليد المحاذية لترهونة.

عملية بركان الغضب

في السابع من أبريل 2019، أعلنت حكومة الوفاق بدء هجوم مضاد على مليشيات حفتر في عملية عسكرية أطلق عليها “بركان الغضب” واشتدت المعارك في مناطق وادي الربيع وعين زارة وصلاح الدين وخلّة الفرجان ومشروع الهضبة حيث أدّت إلى نزوح أكثر من 200 ألف شخص من هذه المعارك التي شهدت كرّا وفرّا بين الطرفين.

وبدأت مليشيات حفتر باستهداف الأحياء السكنية داخل العاصمة في محاولة منها للضغط على الجيش وإجباره على الانسحاب، وارتكبت مجازر في حق المدنيين ما أدى إلى سقوط المئات منهم بين قتيل وجريح، إضافة إلى تدمير منازلهم باستخدام الطيران الأجنبي.

ضربة قاسية

غريان التي بدأ منها حفتر هجومه على طرابلس وأنشأ داخلها غرفة عملياته غربا بقيادة “عبدالسلام الحاسي”، تلقت منها مليشياته ضربة قاسية يوم السادس والعشرين من يونيو 2019 أي بعد نحو ثلاثة أشهر من دخولهم إليها.

عمّت المدينة انتفاضة شعبية ضد مليشيات حفتر، لم تكن الأولى منذ السيطرة عليها، ولكن في هذه المرّة تقدّم الجيش والقوات المساندة له صوب المدينة واشتبك مع مليشيات حفتر وأسر منهم نحو 100 بين ليبيين ومرتزقة أفارقة، وقُتِل وجُرح وفرّ آخرون، ليعلن الجيش تحرير مدينة غريان التي كانت القاعدة الخلفية الرئيسة لحفتر.

تحرير الجيش لمدينة غريان كشف أكثر تورط باريس في دعم حفتر بتزويده بصواريخ “جافلين” الأمريكية التي عُثر عليها في المدينة بعد فرار مليشيات حفتر، فضلا عن مقتل ضباط فرنسيين في بنغازي كانوا في صفوف حفتر عام 2016.

تورط باريس في دعم حفتر بتزويده بصواريخ جافلين

مرتزقة فاغنر

قبل بدء هجوم حفتر على طرابلس بنحو شهر، عاودت وسائل إعلام غربية الحديث عن دور موسكو في تغذية الصراع الليبي، حيث أوردت صحيفة التلغراف البريطانية أنباء عن وجود 300 مرتزق من شركة فاغنر الروسية، يعملون في شرق ليبيا مع حفتر.

فيما نقلت صحيفة التايمز أنباء عن تزويد شركة فاغنر مليشيات حفتر بأسلحة ومعدات، وأشارت إلى أن الشركة الشبيهة بـ”بلاك ووتر” الأمريكية هي من سيتولى تنفيذ العمليات العسكرية لحفتر مستقبلا، وشوهد قبلها “يفغيني بريجوزين” مدير شركة فاغنر والمقرب من الكرملين، على طاولة واحدة مع حفتر أثناء المحادثات التي أجراها الأخير في موسكو شهر نوفمبر 2018.


ظلّت المعلومات حول مشاركة مرتزقة فاغنر في العدوان على طرابلس غير مؤكدة، بغض النظر عن الاتفاقية مجهولة البنود التي وقعها حفتر مع موسكو قبلها، حتى كشفت صحف روسية عن مقتل 35 من هؤلاء المرتزقة وإصابة آخرين بينهم قائد بارز اسمه “ألكساندر كوزنتسوف”، في غارة لسلاح الجو على موقع لهم في منطقة قصر بن غشير جنوب طرابلس أواخر سبتمبر 2019.

“ألكساندر كوزنتسوف” الملقب بـ “راتيبور” أُعيد على وجه السرعة إلى روسيا لتلقي العلاج في مستشفى بمدينة سانت بطرسبرغ، وقد كان راتيبور يقضي عقوبة السجن بتهمة السطو والخطف قبل توجهه إلى ليبيا.

وجنبا إلى جنب، ارتكب مرتزقة فاغنر الروسية مع مليشيات حفتر مجازر فظيعة بحق المدنيين في جنوب طرابلس، ولعلّ أبرزها المجزرة التي ارتكبوها ضدّ عائلة “إمبيص” في منطقة اسبيعة، حيث اقتحموا منزل العائلة وقتلوا جميع أفرادها فيما نجا فرد واحد منهم ليكون شاهدا على المذبحة.

مرتزقة سودانيوّن

مرتزقة فاغنر الذين يقدر عددهم في ليبيا بنحو 3000 فرد، ليسوا وحدهم الذين تعج بهم صفوف مليشيات حفتر، فقد نقلت الإمارات المئات من مقاتلي قوات الدعم السريع السودانية إلى ليبيا للقتال في صفوف حفتر.

وبسبب الخسائر الكبيرة في صفوف الميليشيات، جنّدت أبوظبي سودانيين آخرين عن طريق شركة “بلاك شيلد” التي عرضت وظائف على سودانيين بالخرطوم وغرّرت بهم وأوهمتهم بأنهم ذاهبون إلى الإمارات للعمل كحراس أمن.

نقلت الشركة ما بين 3000 إلى 4000 سوداني إلى أبوظبي ودربتهم على مختلف أنواع الأسلحة لكنّها لم توظفهم هُناك، دفعت بهم قسرا إلى ليبيا وقطعت الاتصال بينهم وبين ذويهم الذين نظموا احتجاجات أمام السفارة الإماراتية في الخرطوم مطالبين بإعادة أبنائهم.

مرتزقة سوريّون

مطلع عام 2020 رصد تقرير سرّي للأمم المتحدة نقل موسكو ما يزيد عن 1800 مقاتل سوري إلى بنغازي عبر شركة طيران “أجنحة الشام” بموجب عقود مدتها ثلاثة أشهر.

وبحسب التقرير الأممي جرى تجنيد هؤلاء المقاتلين الموالين للنظام السوري عن طريق شركة فاغنر في حين لم يصدر أي تعليق رسمي من دمشق حول الموضوع.

كما إن موسكو حاولت تجنيد مقاتلين من قوات المعارضة السورية لصالح حفتر مقابل المال وتوفير عيش كريم لذويهم المحاصرين في سوريا، وقد تظاهر أهالي محافظة درعا رفضا لتجنيد الروس لأبنائهم.

اتفاق طرابلس وأنقرة

ظلّت طرابلس لنحو 9 أشهر تواجه عدوان 6 عواصم عربية وغربية داعمة لمليشيات حفتر، لكن الأخيرة ورغم الدعم الكبير بالعتاد والمرتزقة لم تستطع التقدم سوى بضع كيلومترات دخلتها خلسة في الرابع من أبريل.

وعندما حاول داعموا العدوان التصعيد أكثر لدخول حفتر طرابلس وبأي ثمن ولو كان على جماجم سكانها، لجأت حكومة الوفاق المعترف بها دوليا إلى توقيع مذكرة تفاهم أمنية مع تركيا لمساعدتها في بسط سيطرتها على كامل التراب الليبي ودحر المرتزقة الذين جلبهم حفتر من كل حدب وصوب.

وفي يوم السابع والعشرين من نوفمبر 2019، وقعت طرابلس وأنقرة على مذكرة تفاهم أمنية ظلت حبيسة الأدراج حتى صادق البرلمان التركي على المذكرة، وصوّت في جلسة طارئة يوم الثاني من يناير 2020 على إرسال قوات إلى ليبيا لمساعدة الجيش الليبي.

وبعد أربعة أيام من تصويت البرلمان التركي تقدمت مليشيات حفتر إلى سرت وسيطرت عليها بالتواطؤ مع كتيبة 604 المدخلية والتي كانت داخلها كقوة مساندة وهو ما دفع بالجيش إلى الانسحاب من المدينة.

دعت بعدها أنقرة وموسكو ممثلي حكومة الوفاق وممثلي حفتر إلى التوقيع على هدنة لوقف إطلاق النار على وقع تحذيرات من احتمال تحوُّل ليبيا إلى “سوريا ثانية”، وأغلقت مليشيات حفتر إثرها المنشآت النفطية بما فيها موانئ التصدير.

عاصفة السلام

عند بدء العدوان على طرابلس أعلنت كتائب مسلحة في مدينة صرمان ومدينة صبراتة على الطريق الساحلي غرب طرابلس الولاء لحفتر والمشاركة معه في العدوان، وظلّت المدينتان حاضنتان لملشيات حفتر لنحو عام.

وفي صبيحة الخامس والعشرين من مارس 2020 أطلق الجيش عملية “عاصفة السلام” وشن هجوما مباغتا على قاعدة الوطية الاستراتيجية قرب الحدود التونسية، والتي تتحصن مليشيات حفتر داخلها منذ 2014، وتمكن من أسر العشرات بينهم ضباط برتب عالية؛ وهو ما دفع المليشيات إلى الانتقام ومحاولة التقدم على تمركزات الجيش والسيطرة على بقية مدن الساحل الغربي باستثناء الزاوية وزوارة.


لكنّ هذه السيطرة لم تدم أكثر من أيام معدودة، حيث شنّ الجيش في الثالث عشر من أبريل، هجوما واسعا وسيطر في ساعات معدودة على مدن الساحل الغربي بالكامل (صبراتة، صرمان،العجيلات، زلطن، رقدالين، العسة، الجميل) من طرابلس حتى الحدود التونسية عند معبر رأس إجدير، وفرّت مليشيات حفتر إلى قاعدة الوطية.

بقاء الميليشيات في قاعدة الوطية لم يدم طويلا أيضًا بعد تحرير الساحل الغربي، حيث تمكن الجيش من السيطرة على القاعدة يوم الثامن عشر من مايو، بعد أن فرّت المليشيات أمام ضربات الجيش الذي تقدم منها للسيطرة على بلدتي تيجي وبدر ثم الأصابعة التي كانت معاقل ومراكز انطلاق للمليشيات.

بداية النهاية

النجاح الذي حققته عملية عاصفة السلام قلب معادلة الصراع في ليبيا رأسا على عقب، حيث انتقل الجيش من الدفاع إلى الهجوم، وبدأت مليشيات حفتر تتلقى الهزيمة تلو الأخرى يوما بعد يوم.

وحتى إعلان الجيش رسميا انطلاق عملية تحرير ما تبقى من مدن طرابلس الكبرى يوم الثالث من يونيو 2020 أصدر تعليماته للقوات بالتقدم ومطاردة فلول مليشيات حفتر الهاربة وتمكن في يوم واحد من دحرها من مناطق قصر بن غشير وسوق الأحد وإسبيعة وسوق الخميس إمسيحل إلى ترهونة آخر معاقلها غربا.

بعد دحر ميليشيات حفتر إلى ترهونة وعلى وجه السرعة أطلق الجيش عملية لتحرير المدينة التي شكلت لعام وشهرين أكبر تهديد لطرابلس حيث كانت تنطلق منها المليشيات لقصف المدنيين وتدمير البنية التحتية للعاصمة.


أكبر المحللين السياسيين والعسكريين ما كان يتصور أن تسقط ترهونة بهذه السرعة حيث لم تستغرق عملية تحريرها غير ساعة واحدة على الأكثر، رغم الأسلحة المتطورة التي كانت داخلها وكون المدينة كانت تعج بالمليشيات والمرتزقة باستثناء مرتزقة فاغنر الذين غادروا إلى بني وليد قبل يومين ثم إلى وجهة أخرى.

دروب النصر

لم يقف الجيش عند تحرير ترهونة، فتقدم بعدها إلى بني وليد والعربان وما تبقى من مناطق جبل نفوسة، وبدأت تتجلّى الصورة أكثر؛ ففي الوقت الذي كان يمني فيه “أحمد المسماري” الناطق باسم ميليشيات حفتر أنصاره بأنهم باتوا على بعد أمتار قليلة من جزيرة الفرناج، صدموا بالواقع المرير بالنسبة لهم فلا هم وصلوا إلى الجزيرة المنشودة ولاهم حافظوا على جزيرة ترهونة على أقل تقدير والتي كانت آخر المواقع التي فروا منها غربا.


ويوم السادس من يونيو أعلن الجيش عن عملية جديدة لتحرير مدن وبلدات شرق ووسط البلاد، في مقدمتها سرت والجفرة وأحرز خلال يوم واحد تقدمات كبيرة تجاوزت 100 كم من أبوقرين جنوب شرق مصراتة إلى سرت وسيطر على جميع البلدات التي مرّ بها.
وإذا ما تمكن الجيش من السيطرة على مدينة سرت قريبا، سيكون الطريق مفتوحا نحو تحرير قاعدة الجفرة الجوية والبلدات المجاورة لها مثل هون وودان وسوكنه وزلة والفقهاء.

الجفرة وما بعدها

ومن المعروف أيضا أن قاعدة الجفرة هي بمثابة كلمة السر للسيطرة على كامل المنطقة الجنوبية وإذا ما نجح الجيش في تحريرها، ربما ستنطلق بعدها مرحلة السيطرة على الموانئ النفطية ومن ورائها المنطقة الشرقية.

طوال عام وشهرين ومع كل هزيمة لحفتر تبدأ مليشياته على الأرض باستهداف المدنيين بشكل جنوني، ويبدأ داعموه من الدول العربية والغربية البحث عن مخرج له بدعوات العودة إلى المفاوضات التي رفضها هو عندما توهم بالقوة فهاجم طرابلس بينما كان الليبيون ينتظرون المؤتمر الجامع والذي كان مزمعا في غدامس لحلّ الأزمة الليبية سياسيّا، لكنّ حفتر اختار اللون الأحمر فوقعت الكارثة وفي النهاية فرّت مليشياته إلى قواعد انطلاقها وهي تجر أذيال الهزيمة والخيبة والخسران.

Total
0
مشاركة
مقالات ذات صلة